كان ما سوف يكونُ»...رحل محمود درويش
صفحة 1 من اصل 1
كان ما سوف يكونُ»...رحل محمود درويش
عن 67 عاماً رحل الشاعر الشاب محمود درويش. مصادفة كانت ستشغل باله لو عرف بها. 67 رقم النكسة العربية. 67 رمز كل نكسة وانكسار ورحيل. وإذ أقول «الشاعر الشاب» فلديّ سبب وجيه لقول ذلك. فعلى عكس الشعراء الآخرين الذين يبدؤون شباباً في كتاباتهم الأولى ثم سرعان ما يهرمون من خلال تكرار أنفسهم واجترار استعاراتهم وصورهم ولغتهم، كان لمحمود درويش مسار تصاعدي مغاير وصل حدود أنه -وهو شاعر التفعيلة الأكبر- كَتَبَ قصيدة النثر في آخر أعماله. والمتابع لأحوال النقد العربي لا بدّ له من ملاحظة أن النقاد كانوا يترقّبون صدور كل عمل جديد له كما يترقّبون عمل شاعر شاب يعدهم بتقديم كل جديد. شباب درويش الدائم ترافق بمحاورة دائمة مع الموت،
وخصوصاً إثر موته لدقيقة ونصف الدقيقة خلال عملية قلب مفتوح في أواخر التسعينيات، كتب بعدها (بعد عودته من الموت) مشاهداته لتلك الرحلة، في
قصيدة استحقّت اسمها «جدارية»:
«أيها الموتُ انتظرْني خارج الأرض،
انتظرْني في بلادكَ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي
قرب خيمتكَ، انتظرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد. يُغريني
الوجوديّون باستنزاف كلّ هنيهةٍ
حرّيةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ..
فيا موتُ! انتظرْني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهشّ،
حيث وُلدتُ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه...».
«أيها الموتُ انتظرْني خارج الأرض،
انتظرْني في بلادكَ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي
قرب خيمتكَ، انتظرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد. يُغريني
الوجوديّون باستنزاف كلّ هنيهةٍ
حرّيةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ..
فيا موتُ! انتظرْني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهشّ،
حيث وُلدتُ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه...».
وفي الحقيقة لقد واظب درويش على رثاء نفسه وصنع جنازته بنفسه وعلى مزاجه، ما يذكّرنا بالرثائية الشهيرة للشاعر الجاهلي مالك بن الريب التي قام فيها برثاء نفسه، والتي اختار محمود درويش من أبياتها بيتاً رائعاً وضعه استهلالاً لكتابه ما قبل الأخير «في حضرة الغياب»:
«يقولون: لا تبعد، وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا».
بالشعر استطاع درويش تحويل قصّة النزوح من فلسطين إلى قصّة شبيهة بقصّة الطرد من الجنّة: فلسطين هي الجنّة، والفلسطينيّ هو آدم، والزيتون هو التفّاح.
بامتزاج الألم باللذّة، والحزن بالسحر، بات للمأساة مردودها الجماليّ الخالص.
في شعر درويش ثمة سمة ضوئيّة، أو فلنقل ثمة صباح: نهوض دائم من النوم، قهوة الأمّ، والقهوة مع الحليب... إضافة إلى صفاء لغويّ لا نظير له. وفي حين يأخذ الجسد في قصائد الآخرين منبر الكلام في الجنس، يقوم الجسد الدرويشيّ بالإصغاء. الجنس في قصائد درويش فعل إصغاء لا مرافعة.
لقد جعل درويش من الشعر وسيلته الفضلى لقول كلّ شيء: الغضب، الخيبة، الحبّ، التحيّات... حتى النقد: «كيف أنجو من مهارات اللغة؟». أكثر من ذلك، نستطيع، من خلال قصائد درويش، تقديم رسم بياني لبدء تحوّله، الذي أخذ طابع الحيرة الفلسفيّة، إلى كتابة قصيدة النثر.
«يقولون: لا تبعد، وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا».
بالشعر استطاع درويش تحويل قصّة النزوح من فلسطين إلى قصّة شبيهة بقصّة الطرد من الجنّة: فلسطين هي الجنّة، والفلسطينيّ هو آدم، والزيتون هو التفّاح.
بامتزاج الألم باللذّة، والحزن بالسحر، بات للمأساة مردودها الجماليّ الخالص.
في شعر درويش ثمة سمة ضوئيّة، أو فلنقل ثمة صباح: نهوض دائم من النوم، قهوة الأمّ، والقهوة مع الحليب... إضافة إلى صفاء لغويّ لا نظير له. وفي حين يأخذ الجسد في قصائد الآخرين منبر الكلام في الجنس، يقوم الجسد الدرويشيّ بالإصغاء. الجنس في قصائد درويش فعل إصغاء لا مرافعة.
لقد جعل درويش من الشعر وسيلته الفضلى لقول كلّ شيء: الغضب، الخيبة، الحبّ، التحيّات... حتى النقد: «كيف أنجو من مهارات اللغة؟». أكثر من ذلك، نستطيع، من خلال قصائد درويش، تقديم رسم بياني لبدء تحوّله، الذي أخذ طابع الحيرة الفلسفيّة، إلى كتابة قصيدة النثر.
بعد «كزهر اللوز أو أبعد» (2005) بات انتقال محمود درويش إلى كتابة قصيدة النثر أكثر سلاسة، وربما أكثر حتميّة. لقد أظهر درويش في هذا الديوان قدرة (رغبة؟) كبيرة على «تمويت» الوزن وإدخاله في غيبوبة. لقد بدا جليّاً أن ثمة حاجة ملحّة لتنويمه مغناطيسيّاً (نثريّاً)؛ محوه والإبقاء عليه في آن واحد. استفادة قصوى من تقنيات قصيدة النثر وموارد تعبيرها، وطغيان لليوميّ، مع تصميم لا يُراجَع لردّ الاعتبار النثريّ للأشياء من خلال تعريفات كرّستها، تقليداً، قصيدة النثر... بالطبع، ذلك كلّه مسبوقاً باستهلال غير بريء مقتبَس من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيّان التوحيديّ: «أحسن الكلام ما... قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم» (الديوان ينتهي باقتباس آخر، لكن للشاعر نفسه من قصيدة «طباق»، يبدو غير بريء أيضاً: «وداعاً، وداعاً لشعر الألم»).
في هذا الديوان كان ثمة تأتأة نثريّة. كان ثمة احتباس نثريّ واعٍ. كتابة محمود درويش قصيدة النثر، بعد 21 ديواناً، ليست فعل «تصابٍ» قطعاً، بل دليل قدرة، إن لم نقل يقظة نقديّة لا تشرد. والحقّ أن هذا الشاعر كان أحسن نقّاد تجربته، وليست غاراته التنقيحيّة على شعره القديم سوى دليل على ذلك.
{ { {
«... ويا موت انتظرْ، يا موتُ،
حتّى أستعيد صفاءَ ذهني في الربيع
وصحّتي، لتكون صيّاداً شريفاً لا
يصيد الظبيَ قرب النبع...».
اليوم، مع توقف قلب محمود درويش يخسر الشعر العربي شاعراً شاباً واعداً في ستيناته، أو في 67 ـه كما شاءت المصادفة الخبيثة!
{ { {
«... ويا موت انتظرْ، يا موتُ،
حتّى أستعيد صفاءَ ذهني في الربيع
وصحّتي، لتكون صيّاداً شريفاً لا
يصيد الظبيَ قرب النبع...».
اليوم، مع توقف قلب محمود درويش يخسر الشعر العربي شاعراً شاباً واعداً في ستيناته، أو في 67 ـه كما شاءت المصادفة الخبيثة!
????- زائر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى